يعد ابن مالك النحوي (600-672هـ) أحد أبرز أعلام النحاة، فقد لاقت مؤلفاته عناية خاصة منذ أيامه، فتلقّاها المتعلمون والمعلمون على السواء، وذاع بعضها ذيوعاً واسعاً استمر إلى هذه الأيام. وكان للنظم نصيب وافر من مؤلفاته، فبرز من منظوماته أرجوزته الكبرى التي نظم فيها قواعد النحو والصرف وسماها (الكافية الشافية) وبلغت عدة أبياتها نحو ثلاثة آلاف، ثم اختصرها في أرجوزته الصغرى التي عرفت بـ (الخلاصة) لأنها تلخيص للكافية الشافية، واشتهرت أيضاً بـ (الألفية) لأن عدة أبياتها قرابة الألف.
* ولم تلق منظومة نحوية مالقيتهُ ألفية ابن مالك من حرصٍ على حفظها ودَرْسها وشرحها عبر العصور، فحجبت الأنظار عن الأصل الذي لُخصتْ منه (الكافية الشافية) وعن قصائد ابن مالك وأراجيزه الأخرى التي لخص فيها كثيراً من مسائل اللغة والنحو والقراءات. بل يمكن القول: إنها حجبت الأنظار عن المنظومات النحوية الأخرى كألفيتي ابن معط (ت 628هـ) والسيوطي (ت 911هـ) وغير ذلك.
* وسوف نلقي الضوء من خلال هذه الترجمة الموجزة لابن مالك على سيرته وآثاره معتمدين في ذلك على معظم مصادر ترجمته، كثير من كتب التاريخ والسِّيَر والطبقات، ومفيدين من الترجمات التي صنعها بعض محققي كتبه، آملين أن نتقصّى ما أغفله الآخرون، ونبرز أهمية كتبه وعلوّ مكانته في خدمة تراث العربية الخالد.
1- حياته:
هو محمد بن عبد الله بن مالك، جمال الدين، أبو عبد الله، الطائي نسباً، الجيَّاني منشأً، ولد في مدينة (جَيّان) نحو سنة (600هـ) للهجرة، ثم غادرها في مطلع شبابه إلى بلاد الشام، فتوقف في مصر، وأقام في حلب، وحماة. ثم استقرّ بدمشق مدرساً للعربية والقراءات.
أخلاقه وصفاته
تجسّدت في ابن مالك أخلاق العلماء، فأجمع الذين ترجموا له على عظمة خُلقه وشدة تواضعه، وقيل عنه: ((كان... سخياً، حسن الخُلُق، وأديباً ديِّناً))، وقيل أيضاً: ((صار يضرب به المثل... مع الحفظ والذكاء والورع والدِّيانة وحُسن السَّمْت، والصيانة والتحري لما ينقله والتحريرِ فيه، وكان ذا عقل راجح، حَسَن الأخلاق مهذَّباً، ذا رَزَانة وحياء وَوَقار وانتصابِ للإفادة وصبرٍ على المطالعة الكثيرة، وكان حريصاً على العلم حتّى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد)).
وكان كثير الفخر بنفسه، فقد ((قدَّم ـ رحمه الله تعالى ـ لصاحب دمشق قصةً يقول فيها عن نفسه: إنه أعلم الناس بالعربية، ويكفيه شَرَفاً أنّ من تلامذته الشيخ النَّوَوي، والعَلَم الفارِقي، والشمس البَعْلي، والزَّين المِزّي)). لكنّه ـ على عظمة قَدْرِه وسَعَة علمه أَحْوجه الدهر إلى سؤال السلطان "بَيْبَرْس" واستدرار عطفه بطلب قال فيه: ((الفقير إلى رحمة ربّه محمد بن مالك يُقبل الأرض ويُنْهي إلى السلطان ـ أيّد اللهُ جنوده وأَّبَّدَ سعوده ـ أنّه أعرف هل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الأدب، وأملُهُ أن يُعينَهُ نفوذٌ من سيد السلاطين... بصدقةٍ تكفيه همّ عياله وتُغْنِيهِ عن التسبُّب في صلاح حاله)). فأَجابه السلطان وعيّنه مدرساً في المدرسة العادلية بدمشق، وولاّه مشيخة الإقراء أيضاً.
وكانت مكانته عظيمة عند قاضي القضاة (ابن خَلِّكان)، فكان ((إذا صلّى في العادلية ـ وكان إمامَها ـ يُشيِّعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيماً له)).