أفرأيتَ إلى النَّحلةِ تخرُجُ من خليَّتِها تقطعُ المسافاتِ الشاسعة ، و تجوبُ الأراضي الواسعة ، تقعُ على مختلفِ أنواعِ الزَّهرِ في الجبلِ و السَّفحِ و الوادي ، حتَّى إذا أبدتْ الكَدَّ و الجُهدَ آبتْ بالنَّذرِ اليسيرِ من العسل ، و "يخرِجُ من بُطونِها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه "...
عجبتُ لها طيِّبةً أين وقعت - و لا تقعُ إلا على طيِّبٍ- تعودُ بأطيبَ ممَّا تقعُ عليه .
فذلكَ مثَلُ الشِّاعرِ العظيمِ و الأديبِ الحقِّ ، ذو مقدِرةٍ عظيمةٍ على التَّركيبِ و المزْج ، و التَّوليدِ و السَّبك ، كأنَّهُ الصَّائغُ و الذَّهبْ ، ثُمَّ إنَّهُ يُتعِبُ نفسَه و يَكُدُّها ، و يجوبُ في بُطونِ الكتبِ و أُمَّهاتِها ، مُترحِّلاً بينَ مختلفِ العُلومِ و الآدابِ ، من أرقى ما توصَّل إليهِ الفِكرُ الإنسانيُّ في مختلفِ عصورِهِ ، ثم يُنتِجُ عن ذلك -وبفضلِ قريحةٍ مُبدعةٍ و فكرٍ ناضجٍ و حِسٍّ رقيقٍ و أسلوبٍ بديعٍ-: أدباً عالياً راقياً كما تؤوبُ النَّحلةُ بالعسل .
ثم انظر-أعزَّك اللَّهُ-إلى الذُّبابةِ- و"إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ مثَلاً ما بعوضةً فما فوقها" - تراها تروحُ و تغدو باصطيادِ مواقِعِ الأقذارِ ، و اختيارِ مواطِنِ الأكدار ، تقعُ عليها و لا تؤوبُ إلاَّ بالخُبْثِ و المرضِ و الوباء...
عجِبتُ لها خبيثةً أينَ ما رحلت - و لا ترحلُ إلا إلى خبيث - و تؤوب بأقذرِ ممَّا ترحلُ إليه .
ذلك مثل المُستشعِر أو الشُّعرور وذلكَ مبلغُه من العلمِ و العقلِ و الجنانِ ، و القُدرةِ على البلاغةِ و التَّبيينِ و البيانِ ، و الفصاحةِ و التَّوليدِ و المعاني ، و التَّركيبِ و المزجِ و التَّخليط ، و كأنَّهُ الكلاسُ و الطِّين ، و ذلك ما يقعُ عليهِ من أدرانِ أمثالِهِ و آدابِ أقرانِهِ .
فإن أتى أحدُهم بشيءٍ مُصادفةً فإنَّك واجدُه سارقاً – ومن السِّرِقةِ في الشِّعر ما يكونُ محموداً - من أدبِ غيرِهِ سرقةً دنيئةً شاءَ القدرُ أن يرفعَ بها شأنَه ، و يحُطَّ من قيمةِ ما سرقَ ، من غيرِ أن يحظى بشرفِ اختراعِهِ ، فيبقى في نفسِه دون ما يكونُ الذُّبابُ في نفسه .
"وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون"